دير مار اليان الشيخ – في بادية القريتين
تاريخ و
جغرافية المنطقة:
القريتين مدينةٌ قديمة ترقى إلى نحو الألف الثالث قبل المسيح.ودعيت بهذا الاسم لأنها تعني مدينتين الأولى واسمها الآرامي “حصر عينان” وتعني مجمع العيون أما اسمها الأقدم كما يقول بعض المؤرخين وهو سومري ” نُزالة” أما في زمن الرومان فقد دعيت “قِرّادى”, والثانية اسمها الآرامي “عيناتا” وتعني عين الماء .
تقع مدينة القريتين في قلب البادية السورية، وهي تشكل محطة هامة في الطريق لقوافل التجار والحجاج العابرين على هذا الطريق بين بلاد ما بين النهرين والبحر المتوسط.
إن غزارة ينابيع المياه الطبيعية العذبة والتي تجاوز عددها الاثنين والعشرين نبع ماء كانت العنصر الأساسي لنشأة الحضارة واستيطان الإنسان فيها منذ خمسة آلاف عام. ما تبقى من هذه الينابيع التي جفت رويداً رويداً في النصف الثاني من القرن العشرين هو واحة طبيعية من ينابيع ماء تشكل بحيرةً صغيرة تحيط بها غابة من أشجار متنوعة وهي ما نسميها اليوم بـ”وادي العين”، ومنها تجري المياه عبر قنوات نظمها الفلاحون لتسقي أراضيهم التي زرعت منذ قديم الزمان واشتهرت بكرومها و سيِّجت بالرمان والتين.
كان أهل المنطقة من الوثنيين عبدة إله الشمس “بلّ- حدد”. ثم اعتنقوا المسيحية منذ فجرها على يدّ توما الرسول الذي مرَّ منها في طريقه إلى الهند ومما يدل على ذلك وجود أقدم كنيسة على اسمه ورد ذكرها في بعض الكتابات المخطوطة منذ القرن التاسع الميلادي.
في القرن الخامس الميلادي كانت القريتين أسقفية وكانت تابعة لبطريركية أنطاكية وحضر أسقفها المجمع الخلقدوني سنة 451م.
دير مار اليان شاهد -كما وبقايا الخرب- لكنائس أو مواقع مسيحية مثل حوارين التي نجد فيها سبع كنائس ودير تعود إلى حوالي القرون الخامس-السادس الميلادي، على أهمية الوجود المسيحي منذ القرون الأولى للمسيحية في المنطقة. هذا الوجود مستمر حتى اليوم في مدينة القريتين وصدد والحفر والفحيلة.
سيرة القديس اليان و تاريخ الدير:
المصادر الأهم التي تعرفنا على حياة القديس اليان الشيخ هي أناشيد للقديس أفرام السرياني وهو أحد تلامذة مار اليان إذ كتب أربعة وعشرين ميمراً في مديح معلمه. وسيرة القديس اليان الرهاوي كتبها المؤرخ تيودورس القورشي في كتابه تاريخ أحباء الله ويعود إلى القرن الخامس الميلادي.
ولد القديس اليان في منطقة الرها – أورفة الحالية، وهي من أعمال تركية حالياً في بداية القرن الرابع الميلادي، اشتهر بنسكه وصومه وعزلته في أحد الكهوف من جبال الرها، جمع حوله ما يزيد عن المائة رجل ليعيشوا على مثاله حياة نسك وتعبد عرف من بين تلاميذه القديس أفرام السرياني معلم الكنيسة الجامعة. اشتهر كثيراً بصنع المعجزات من شفاء للمرضى وإقامة الأموات باسم الرب يسوع الناصري. وكان كل سنة يذهب مع بعض تلاميذه في بداية الصوم الأربعيني (بداية الربيع) في رحلة حج يقطعون البادية سيراً على الأقدام مدة أربعين يوماً وأربعين ليلة ليصلوا مع المسيح إلى أحد الشعانين ويدخلوا معه إلى القدس الشريف. فيحتفلوا مع الكنيسة هناك بأسبوع الآلام الخلاصية والقيامة ثم يعودوا إلى مناسكهم.
رقد في الرب سنة +364م ودفن في القريتين حيث بنى رهبانه لهم ديراً بالطين(اللبن) والحجارة سكنوا فيه وكانت الانطلاقة لحياة رهبانية نسكية في البرية.
شهد الدير مع الزمن ازدهاراً كبيراً حيث كان جلَّ اهتمام الرهبان التركيز على الصلاة والزهد في أمور الدنيا، كما كانوا يهتمون باستقبال الزوار والحجاج وقوافل التجار، الذين كانوا يتخذون من الدير محطة هامة تشكل واحة راحة ليس فقط للجسد إنما أيضاً للنفس والروح.
نشأة الدير في هذا المكان ارتبطت أيضاً بوجود الماء في المنطقة “قناة الدير” مما ساعد الرهبان على العمل في الأرض وزراعة الكروم والأشجار المثمرة.
حوالي القرن الثامن عشر هجر الدير كلياً من الرهبان، إلا أن الدير بقي واحة صلاة وراحة لأبناء القريتين من مسيحيين ومسلمين، وكذلك لكثير من الحجاج الذين يؤمون الدير قصد التبرك والشفاء.
سنة 1938 شيدت كنيسة جميلة ومعبِّرة فوق ضريح القديس من حجارة النحيت واللبن. وفي السبعينات من القرن العشرين ابتنت الرعية ثلاثة غرف من الحديد والاسمنت لخدمة استقبال الزوار والضيوف الذين يأتون من بعيد لقضاء عدة أيام في الصلاة ولإيفاء نذورهم.
سكنت الدير بعض عائلات الرعية بغاية الاهتمام بأرزاق الدير من المزروعات حتى سنة 1978م، حيث جفت “قناة الدير” وبذلك ماتت الكروم بسبب التصحر وقلة الأمطار. هجر الدير.
إعادة الحياة لدير مار اليان:
سنة 1996 شهد الدير فجر ولادة جديدة بفضل الإرادة الطيبة لراعي الأبرشية آنذاك المطران مار باسيليوس موسى الأول داود الذي غدا فيما بعد رئيس مجمع الكنائس الشرقية في روما بعد ذلك. حيث وضع مشروعاً متكاملاً لإعادة تأهيل الدير والأراضي وجعله من جديد واحة خضراء تجدد في نفوس أهل المنطقة الرجاء وتجذبهم للصلاة والراحة. فقام خلال السنين الأولى بحفر بئر ماء وإيصال الكهرباء للدير كما قام بمشروع زراعة عدد من أشجار الزيتون واللوز في الأراضي المحيطة بالدير والكثير من الأشجار الحراجية، وكل ذلك تحقق أيضاً بفضل حماس لجنة الرعية التي شكلها لتكون قلب هذا المشروع الحيوي.
فتح من جديد باب الدير وأصبح هتاك من يستقبل الزوار الآتين من بعيد ومن قريب.
وفي سنة 2000م حدثت خطوة جديدة هامة عندما طلب سيادة المطران مار ثيوفيلس جرجس كساب من جماعة دير مار موسى الحبشي الرهبانية في برية النبك الاهتمام بمتابعة مشروع الدير والاهتمام بالرعية.
يعيش في دير مار موسى القابع في الجبل المدخن شرقي مدينة النبك جماعة مؤلفة من رهبان وراهبات يجددون فيه خبرة آباء البرية في عيش العلاقة مع الله والنسك. حيث أسسوا خبرتهم حول ثلاثة أركان: الصلاة، الضيافة، العمل. المطعمة بنداء ورغبة في الحوار الروحي مع المسلمين. مسيحيو مدينة القريتين يعيشون جنباً إلى جنب مع إخوتهم المسلمين منذ عدة قرون ويتقاسمون فيما بينهم كل ظروف الحياة ويتشاركون في كل المناسبات الاجتماعية.
الأب الراهب يعقوب مراد وهو أحد رهبان دير مار موسى الحبشي منذ عام 1991، انتدب من قبل الجماعة الرهبانية وبموافقة وبركة راعي الأبرشية ليكون خادماً لرعية القريتين ومسؤولاً عن متابعة مشاريع إعادة إحياء دير مار اليان.(رعية القريتين السريانية الكاثوليكية تعد حوالي 320شخص مقيمين في المدينة).وخلال السنوات الخمس بين سنة2000-2005م تم المباشرة بالعديد من المشاريع الهامة سواءً في الدير أو في الرعية. من تنظيم مشروع التنقيب بتشكيل بعثة مشتركة سورية-بريطانية تقوم بأعمال الحفريات، ووضع نواة لمتحف في الدير القديم يحوي بعض ما وجد من اللقى الأثرية. كما توسع المشروع الزراعي مع إنشاء مختبر زراعي….
مشروع التنقيب:
يعود تاريخ بناء الدير إلى نحو القرن الخامس والسادس الميلادي استناداً إلى معطيات أثرية ثابتة كبوابة الدير الصغيرة التي تعلوها زخارف جميلة وهي بهذا الحجم كسائر أبواب الأديرة القديمة وذلك لغايتين: الأولى تحصيناً للمكان ولحمايته من الغزوات، والثانية تخشعاً عند دخول الدير. وقبر القديس وباب كنيسة الدير المصنوع من خشب الأرز والمزين بزخارف فريدة وهو معروض في متحف دمشق. تبلغ مساحة الدير المسطحة 450م مربع محصَّن بجدارٍ عالٍ من اللبن والطينة العربية تهدم قسم منه خلال الفترة الماضية.
وعندما ننظر نحو الجهة الشمالية للموقع نجد كنيسة الدير الأثرية المتواضعة في شكلها البسيطة في هويتها والمعبرة في هندستها عن روحانية الجماعة وتراث المنطقة، وقد شيدت حول ضريح القديس اليان في القرن الخامس ميلادي على الأغلب.
المشروع الزراعي والاجتماعي:
لثلاثين سنة خلت كانت كروم العنب المحيطة بالدير تروى بماء القناة المتدفقة من الجهة الجنوبية الغربية. ذلك النبع الذي استخدمه الرهبان على مر العصور. وفي عام 1978م جفت النبع وانتهت بذلك الحياة الزراعية في تلك البقعة.
في الواقع تقع القريتين في منطقة معروفة بجفافها الشديد (حوالي 100-150ملم معدل مياه الأمطار في السنة) وحيث كافة المزروعات تعتمد على الري، منذ بضعة عشرات من السنين تكاثرت المراعي حول المدينة وامتدت المساحات المزروعة على امتداد الصحراء مما أدى إلى تدني مستوى المياه الجوفية المحيطة بالمدينة ولذلك للوصول إلى مستوى طبقة المياه الكافية للري يجب الحفر حتى مستوى عمق 150م حيث نجد مياهاً كبريتية، بينما يجب الحفر حتى مستوى 400م للوصول إلى مستوى المياه القابلة للشرب.
في عام 1997 وبتوجيه من سيادة المطران مار باسيليوس موسى الأول داود تم حفر بئر في الناحية الشرقية من الدير، كما تم إيصال الكهرباء للمكان. وتم كذلك إطلاق مشروع زراعي في الأراضي التي تمتد على مساحة 65هكتار حول الدير، حيث قام أفراد الرعية بزراعة عشرة هكتارات سبعة منها زرعت بأشجار الزيتون وهكتار واحد بالمشمش واللوز، وهكتار آخر بالعنب وسيجت كلها بأشجار حراجية.
آخذين بعين الاعتبار شح المياه في المنطقة، تروى هذه الأراضي بحسب نظام الري بالتنقيط بإشراف مزارع. وفي سنة 2003 تم بناء خزان ماء سعته 40متر مكعب لتنظيم عملية الري بطريقة أفضل.
سنة 2005 شهد النور مشتل صغير للنباتات العطرية والأعشاب الطبية التي يمكن لها أن تنمو بدعم مائي محدود.
أما بما يتعلق بالمساحات المتبقية من أراضي الدير الغير المزروعة والتي من غير الممكن زراعتها حالياً بسبب عدم إمكانية الري، فقد اخترنا أن نوجه الدعوة لوزارة الزراعة للاهتمام بإيجاد حل لها، لاسيما وأن أعضاء فريق الإدارة يعمل على إعادة إحياء الحراج في سوريا من خلال زراعتها بأشجار ونباتات تتأقلم مع الجو الصحراوي الجاف.
في عام 2004 قام فريق من مشروع تنمية البادية بزراعة 25هكتار بنباتات رعوية (رغل وروثة) كانت قد اختفت من المحيط بسبب الرعي المكثف والجفاف. في حال نجاح زراعتها ونموها بشكل جيد فإنها ستشكل مرعى صغير لتربية الأغنام.
إن زراعة شجرة في الصحراء هو عامل رجاء، وربما لهذا السبب تعلق قلب أفراد الرعية بهذه الجزيرة الخضراء التي حاطت بالدير القديم. أملنا أن تشكل هذه الجزيرة عامل تطوير للوعي البيئي في المنطقة. إن السعي لإيجاد الوسائل الناجعة لمكافحة التصحر بشكل علمي وفعلي سيفتح آفاقاً جديدة فما أجمل اللقاء للصلاة فيها أو لزيارة المتحف أو للنزهة في الحقول.
الحياة في الرعية: 
قبل الأزمة السورية كان في قلب حارة السريان في وسط المدينة القديمة تقوم كنيستان؛ السريان الأرثوذكس وتعد 1300شخص، والسريان الكاثوليك وتعد 320 شخص.
كان التاسع من أيلول يوما هاما في حياة أهل البلد، كونه عيد مار اليان، حيث كانت تخرج فيه المدينة متجهة نحو الدير في الصباح وأسراب الحافلات تأتي من عدة قرى ومدن في محافظة حمص وغيرها، لتجتمع حول أسقف الأبرشية للاحتفال بالقداس الإلهي.
عودة الحياة إلى دير مار اليان بعد الحرب:
في عام 2015 شهد الدير دماراً وخراباً وتهجير رهبانه والمسيحيين من البلدة، إلاّ أنّ الحياة عادت اليوم إليه بهمّة وجهود أبرشية حمص للسريان الكاثوليك والمؤسسات الكنسية المانحة، حيث تجري أعمال الترميم بعد إعادة رفات القديس وضريحه إلى الدير.