نشاطات المطراننشاطات المطرانية
كلمــة المــطران مــار يوليــان يعقــوب مــراد في لقاء إكليروس حمص
كيف نعيش الميلاد في هذه السنة؟


كلمة المطران مار يوليان يعقوب مراد خلال صلاة الميلاد المشتركة في كاتدرائية الروح القدس- حمص
كيف نعيش الميلاد في هذه السنة؟
إنَّ العيد بالنسبة لغالبية الشعب السوري هو مدعاة ألمٍ ويُذكِّر بالنَّقص الَّذي نُعاني منه ونعيشُه كلَّ يوم. إنَّ العيد، هو هذا اليوم الذي في الحالات الطبيعية هو محطَّة فرح وتجديد وانطلاق ومصالحات ورؤىً وتغيير عن المألوف، ممَّا يعطي المعيِّدين فرصةً للتجدّد واللّقاء والحبّ وتوطيد العلاقات والمشاعر ….
إلاّ أنَّ العيد منذ أنّ بدأت الأزمة في بلادنا أصبح يُعاش بما يحمل من معانيَ جميلة بصعوبةٍ كبيرة، وقهرٍ ويزداد كلَّ سنةٍ بعدَ الأخرى سوءاً بسبب تردي الأوضاع الاقتصاديَّة وتراجع القيم الانسانيَّة والأخلاقيَّة والمبادرات. لذلك بالنسبة للكثير والكثير من أبنائنا العيد لم يعد سوى ألم فوق ألم ولا من يصغي. لذلك نأتي اليوم للوقوف معاً أمام طفل المغارة الذي ولد في البرد والصقيع، في الفقر والتعتير، في الحرب والتدمير، لقد أصبحنا نختبر واقعية تجسد الرب يسوع في واقع حالنا اليومي، فعندما نجد كهلاً وشيخاً أو طفلاً يتعربش إلى حاوية القمامة ليبحث عن شيءٍ يُؤكل له ولإخوته أو أولاده…إذ من الممكن أنه منذ يومين أو أكثر لم يأكل. وأن يولد يسوع اليوم في غزة متنشِّقاً رائحة البارود في أنفه كما كل أطفال تلك الرقعة من شرقنا، مع إمكانية الموت تحت القصف هو واقع محتوم. إنه يشاء أن يولد هذه السنة في هذا الوضع الذي يعيشه شعبنا في هذه المنطقة. وإن نسينا فلا ننسى الملايين من اللاجئين في المخيمات في دول الجوار خاصة الذين يعيشون منذ أكثر من عشر سنوات في خيم هي أصعب من المغارة في الشتاء والعالم صامت لا يؤتي ببنت شفه.
الميلاد في كنيسة سوريا
إننا لنرى عجباً، شباب يتحدَّون الواقع من ظلام وظلم، ويتحمَّسون ليزِّينوا الكنائس والبيوت والشوارع بزينة الميلاد، أشجار علامة الخصوبة والحياة، أضواء علامة الرجاء والجدّة، ألوان علامة الحب والعطاء، هذا التحدي هو الشهادة الحية على أن ميلاد السيد المسيح بالذات هو العيد، فيسوع يأتي فيجدِّد واقعنا ولا يدعنا نبقى في غفلتنا، ونستسلم لليأس والقنوط، يزرع فينا أملاً جديداً هذا هو العيد إنه الرجاء إنه تحقيق وعد الآب، ميلاد المسيح هو المستحيل الذي أصبح واقع وحقيقة، ميلاد المسيح هو تغيير في قلب اليأس، التجسد هو رسالتنا في واقع عالمنا اليوم.
ترقب نفسي للرب أشد من ترقب الحراس للصبح
إن زمن الميلاد يحيطنا بمواقف فيها كانت الشخصيات المعنيَّة تعيش الانتظار بترقب وانتباه وكأنها تعلم بأن الله سوف يتدخَّل في حياتها. فنرى زكريا حاضر في الهيكل لا يترك مهمته بالرغم من تقدمه في السن، إذّ هي ما تبقَّى له في الحياة يعطي معنى لوجوده.
ومريم قلبها باستمرار متقد بالرب، تهذُّ باسمه طوال النهار والليل، مدركة في أعماقها تدخُّله المباشر في حياتها.
ويوحنا السابق يعي ويفرح بأنَّ وجوده مرتبط بالرب العريس الآتي، والرعاة والمجوس الذين فهموا دور النجم في الإرشاد إلى المغارة أي إلى السر… وهنا نتساءل، ما هي الأدوات التي تساعدنا في فهم السر الالهي، والبحث عنه؟
الاصغاء والترقُّب، تعبير عن اليقظة والانتباه، وأنَّ ما أنتظره يعني لي، فهلّ نحن نعيش اليوم بترقُّب وسهر وانتظار، ونبحث عن الرب ونرغب في استقباله؟ ماذا يعني أن يتجسد الربّ يسوع اليوم؟
ممكن أن يكون الجواب التقليدي ليخلِّصنا؟ يخلصنا من ماذا؟ ما هي مخاوفنا؟
التمييز:
لنتخذ مكاناً أمام المغارة المزمع يسوع أن يولد فيها. ونطرح كلَّ الأسئلة التي تخطر ببالنا، ولنحاول فهم رسالة التجسد التي حقَّقها ربنا يسوع المسيح طاعة لأبيه السماوي وحباً بالخليقة صنع يديه، فهو الكلمة التي بها كان كل شيء ومن دونها ما كان شيء مما كان.
إنَّ الغاية من التجسُّد ليس الخلاص من الخطيئة الأصلية، إن تجسُّد ابن الله واتخاذه جسداً من عذراء صبيَّة لطيفة طاهرة لا عيب فيها، إنَّما ليكشف لنا ويذكِّرنا بحالتنا التي أحبَّنا فيها الله فخلقنا عليها لنكون شركاء له في قداسته وألوهيَّته والمجد الغير بعيد عنَّا. فما تجسُّد المسيح إلا ليكشف عن جمال طبيعتنا الإنسانيَّة الجسمانيَّة، وقدرة الإنسان للسَّعي في القداسة والطهارة والسمو والمجد.
الحوار:
إن التجسد هو قرار الله أن يدخل في حوار معنا، بعد أن قطعنا العلاقة معه بالخطيئة وهربنا من وجهه في كلِّ مكان مبتعدين عن تعاليمه وإرشاداته إما خوفاً من العقاب إذّ أن نظرتنا إليه هي نظرة إله جبار قدير، يجازي كلَّ إنسانٍ بحسب أعماله فالويل لي ما أشقاني أنا الخاطئ إذ ارتكبت المعاصي فخسرت ثقتي بنفسي وثقة الله بي فمن ينقذني من شقائي هذا، إن تلك النظرة نحو الله ليست إلا تحجيم له ولقدرة الحب اللامتناهي الذي عبر عنه تجاه بشريتنا في الابن الوحيد المتجسِّد. إن عظمة الله التي أظهرها لنا بتجسّده لا يمكن إلاّ أن تفهمنا رغبته العميقة في التقرُّب إلينا والحنوّ علينا. لذلك ليس لنا إلّا أن نبادر نحوه بالسجود له في المغارة مع المجوس الغرباء الذين تكبَّدوا عناء الأسفار وجهد السعي المعرفيّ، لفهم علامات الأزمنة.
المواطنة:
المواطنة تعني الانتماء، ونحن اليوم وأمام أزمة الهجرة التي تهلك كيان الكنيسة وتهدد وجودها لا يمكن لنا إلّا أن نتأمّل في معنى وجودنا كتلاميذ لهذا الذي اختار أن يتجسد في هذه الأرض وهذه المنطقة، ويجسِّد هويَّة له زمنيَّة من أرضنا، فجعل انتماءه لنا قضيَّةً وجوديَّةً إذّ دافع عن حقِّ كلِّ شعبٍ في الوجود والحريَّة والعيش بكرامة وسلام.
إنَّنا نفهم اليوم انتماءنا لكنائسنا الشرقية ولوجودنا في هذه الرقعة من الأرض التي منها نشأت الكنيسة وانتشر الإيمان المسيحي في العالم القديم، بأنه رسالة كما قال البابا القديس يوحنا بولص الثاني. فرسالتنا اليوم في هذا البلد هي بأن نكون أداة للمصالحة وبناء الثقة من جديد، وأنّ نعيش الانتظار بصبر وتضامن مع كل الناس إلى أن يأتي الفرج ولعله قريباً إنّ شاء الله.
إننا في هذه السنوات مارسناً دوراً متميزاً إلى جانب شعبنا المعذّب دون أن نأخذ مكان من لهم المكان وهذا إن عبّر عن شيء فهو عن وعي دور الكنيسة لمسؤولياتها الاجتماعية والإنسانية والروحية دون أن تتعدى على دور الآخرين وأقصد بذلك أجهزة الدولة. وهذا من وعي الكنيسة لانتمائها وحبها للوطن. إلا أن بالمقابل للكنيسة أيضاً حق بأن تطالب الدولة بمساعدتها في الحفاظ على ما تبقى من أبنائها واستعادة من هم في الجوار. وهذا أيضاً من نفس دافع المواطنة الذي تعي الكنيسة ذاتها فيه.
المواطنة ليست شعارات إنها شهادة حياة.
أريد معكم أن أتوجه إلى طفل المغارة الاله السامي المقام، ساجداً وخاشعاً وطالباً من إله الرحمة والغفران أن يسامحنا على كل موقف تفرقة وإهانة ارتكبناه عن قصد أو بدون قصد، جرحنا فيه قلبه القدوس، وليعطنا الحكمة والفهم والمشورة كي نستطيع أن نتجاوز ضعفاتنا ونلتزم في السير معاً نحو بناء جسور سلام ومصالحة وثبات في الخير لعل الرجاء رسالتنا تجد معنى. آمين.